الدور على الغرباء

Saturday, November 25, 2006

كلامٌ عابر


كلامٌ عابر

لا يرغب الشاعر حين يمسك القلم أو يتمتم سطرا شعريا أو حتى حين يُخرجُ رأسه من النافذة ليتفقد الطقسَ أن يدوِّن ملاحظةً و لا أن يؤدي فعلا يوميا اعتاده بقدر ما يرغب في إعلان سخطه على العالم أو الهروب إلى الكتابة.

الهروب إلى الكتابة أو الهروب إلى اللغة هو ما أفعله كل صباح. كوبُ شايٍ و بعضُ الأوراقِ و سلةُ مهملاتٍ جائعة، ذلك كل ما أحتاج للتجسس على تلك الرغبة في ترويض و إعادة صفِ ليس شيئا ما بل العالم كله أحاول دائما التغلب عليه و رفضه مقنّعًا؛ لِمَا للدخول إلى جوهره من متعةٍ. ربما هي فطرة أو غريزة تلح علينا أن نضع كلّ شيء في قارورةٍ ثم نقوم بتحطيمها، وكأن هذا الفعل أو السلوك يربط بعضنا وراثيا ببعض، و يحكم علاقتنا بالأشياء من جهة أخرى. فِعلٌ أو سلوك يرتبط باستمرارية الحياة و رفضها و الاعتراض عليها عبر مفارقات لا يكفي وضعها ضمن شكل مفرد لأنه ببساطة يستدعي حضور الكل في الواحد و بشكل يحقق له الكمال.. ربما من هنا أدّعي أن الكتابة محاولة لملامسة الكمال. تسير جنبا إلى جنب معي في كل ما أقوم به و ما يقوم به الآخرون كالظل تماما و لكن دون أن يأخذ شكلي، لأنه في ذات اللحظة يتقمص شكلَ من يسير على الجانب الآخر و من يسير في الاتجاه المعاكس أيضا.. ظل يمتد في جميع الاتجاهات لأن مصدر ضوئه داخلي أنا. فالكتابة هي تلك المتعة المؤجلة التي لا أشعر بها إلا حين الخروج من العتمة وصولا إلى تلك المساحة المضيئة؛ لتصبح هي الملاذ الأخير لتَفَهُّم و التفاهم مع النفس و الأشياء من حولها ابتداء بالذات و انتهاءً بالعالم ابتداءً بتوترات الحب و انتهاء بتشابكات و عقد الحياة.

الابتسامات و ذلك الوجه المتعب، الشوارع، النوافذ، البيوت، الطيور، العربات، الهواء، الشتاء و الصيف و .. و ... كلها لا تمل من تكرار نفسها و كأن هناك جلادا يشير لها:" هكذا و إلا.. ".

والكتابة هنا هي الكائن الوحيد المتمرد على ذلك كله لأنها تقوى على حملهم جميعا و وضعهم في قارورتها الخاصة، إذن هناك جانب متألم يسحبها نحوه، يقول الشاعر الإنجليزي شيلي : " أن أكثر أغانينا جمالا هي أكثرها حديثا عن الألم". و هناك جانبٌ يُكسبها إحساسا بالغربةِ عن المكان و الزمان معا يجعلها في حالة ترقب لما سيحمله الوقت و ما سيؤول إليه المكان و لا مناص لها، في هذه اللحظة، إلا الخروج برؤيةٍ تُهيِّئها لذلك كله. و لا تنشغل بتسمية القلب قلبا أو الحبِ غيبا، أو الموت مرآةً هكذا غير مشغولة بإعطاء المسمى نصيبا من التعب و لا قسطا من الراحة، كلّ شيءٍ موجود، فلا حاجة لها للإضافة بقدر حاجتها لكشف الأشياء و جعلها شفافة مضيئة...

قد أبدِّل في اليوم أكثر من قميص و لكني أنا في جميع القمصان، الموت حين يُجرّد يصبح همًّا و الجوع و الحاجة للغير و النفي كل ذلك في النهاية يصبح همًّا. و الكتابة لا يشغلها الموت و لا الجوع ولا.. و لا.. بقدر ما يشغلها الهم. لا يشغلها أحمد و لا محمود و لا فلان بقدر ما يشغلها الإنسان.