الدور على الغرباء

Sunday, March 15, 2009

لم أقتل أحدا


لم أقتل أحدا، ولم يطلْ أحدٌ من ساعتي ليوقف الوقتَ حتى أجد الجهة المناسبة للركضِ خلف ما بدا لي مريحا، لاحقتُ الريحَ أكثر من مرةٍ لأسمع ما تسرّ للأشجار به فتصرخُ من الفرحِJustify Full، لاحقتها مرة حتى اصطدمت بباب البيتِ كنت أضع يدي في جيبي وأمشي خفيفا تحملني مترا وأمشي مترا آخر على قدمي وأدندنُ أغنية فيروز (من زمان كان في صبي العب انا وياه)، حلمت أني ألمس السحابَ بعد أن حدثتني أمي عن ناطحات السحابِ في بلادٍ لم أزرْها حتى هذه اللحظة، وحين صحوت وجدتُ وجهي ملتصقا ببلاط الغرفة، كان البلاط أبيضا تماما كلون الحلم، جرّبت أن أرى الله نمتُ على السرير، وتجاهلت كل حواسي مستعينا بإغماض عيني، ومضت ساعةً وأنا على هذا الوضع ولم أر سوى دوائرَ بيضاء تتسعُ وتضيق، قرأت في أحد المجلاتِ عن طفلٍ بحث مثلي عن الله ثم صعدَ إلى السماءِ فحولته السماء إلى فيلٍ أبيض بستة أنيابٍ ليدخل في خصر أمه ويولد من جديد على هيئة زهرة لوتسٍ بيضاء فيها صفات الكمال، وبعد أن راقبتُ خصر أمي لم تعجبني فكرة الفيل ولا قتل أمي ولا تحويلي إلى جمادٍ حتى لو كان زهرة لوتس تخرج من بطن أمي واكتفيت بكلام أبي: الله موجود يرانا ولا نراه. إلى أن همس صديق لي أن من الأنبياء من رأى الله، ففرحتُ بفكرة كوني نبيا، وطرت إلى المصحف ففيه كل ما يلزم المرء ليكون نبيا ولله الحمد أن هُدم الحلم مرة أخرى بأن محمدا آخر الأنبياء، توقفت بعدها عن إخبار أصدقائي الضالين بما أحلم به.. وعدت لملاحقة الريح، الريح تأتي بالمطر ولها صوتٌ يقلل من هدوء الليل، والريح تسبب الفرح للأشجارِ. في "غزة" حيث ولدتُ تهبّ الريحُ دائما من الغرب من جهة البحر، ظننتُ أن البحر يحجب عني سر الريح العظيم الذي يجعلها قادرة على تحريك الكون، البحر والريح صديقاي المخلصان منذ الطفولة، أتجسس على الريح وأصالح البحر كي أخبره عن أسرار الريح، تعلمت مصادفةً من البحر أن أكون وصوليا، في حصص الرسمِ تعودتُ مزج الحلمَ على ورقة الرسمِ حتى خلصتُ إلى لوحة لشجرةٍ كبيرةٍ تنبتُ في وسط البحرِ أجلسُ عليها وأمد يدي لأمسك الريحَ واستعضتُ بخطوط مائلة عن الريحِ والأغربُ من هذا أن المدرس اتهمني بسرقة رسوماته أخبرني أبي بذلك بعد أن طلب المدرس مني احضاره وشكره أبي يومها، وأخبرني بعدها أن موج البحر ليس جبالا وصوّره القرآن بالجبال في قصة نوح لتعظيم الموج فقط وواصل ألم يغرق ابن نوح في الموج، إذن الموج ليس جبلا فلم نسمع عن أحد غرق في الجبل، واكتفيتُ بإصراري أني لم أسرق لا الرسومات ولا المدرس ولا القرآن ولا نوح وبحره حتى، ولم أتعلم السباحة خشية الغرق، خفت من الغرق بعد أن فكرتُ كثيرا بقتل البحر ومواجهة الريح بلا موج يحجب أسراره، فلا بد أنه يحجب الكثير من الطقوس التي ستفرحني مثل الأشجار. في الشتاء يُحضر أبي قطعا من أفرع الشجر الجافة يختارها بعناية ويضعها في كانون ويشعلها خارج البيت ثم بعد أن تخف النار يدخلها للبيت نلتف حولها ولا تقدر أجود أنواع التدفئة الحديثة على إحداث دفء الكانون في البيت، وفي آخر الليل يبلل ورق الجرائد بالماء ويلف البيض به ليدسه في الرماد تحت بقايا الجمر ويتركه حتى ينضج، وفي يده سكين ليحرك الجمر ، تسخن قشرة البيض ببطء وعلامة نضج البيضة أن تنكسر القشرة كأنها جاهزة للتقشير والأكل، تنكسر باصدارها صوت ( طق )، نأكل ولم يتوقف يوما عن ذكر الفرق بين نار البيض ونار جهنم وينسى أن الحديث عن جهنم يقضي على الرغبة في الأكل. ربما هناك خلف البحر أكثر من شواء البيض، وحين نضجت حواسي أكثر ونضجت معها رغباتي في كشف سر الريح، أحببت النساء في ملابس الشتاء الثقيلة، وحول أعناقهن وشاح صوفي وأنوف وأعقاب أقدامٍ تضيء احمرارا من البرد، أنوف النساء الباردة أمارة بالسوء والمعطف النسائي الطويل يجعلني أكثر شبقا يخفي جيدا ما أحب أن أراه جسدا حريريا يكويني بدفئه، هكذا حتى لامست أول فتاة كنت في الرابعة عشر من عمري جاءت لتستعير دفتر الواجبات المدرسي وانتظرتْ داخل البيت كي تجف ملابسها قليلا من المطر أو على الأقل أن يخف المطر في الخارج وكان الدفء سيد الموقف لم أحب الفتاةَ ولم أفكرْ بها من قبلُ، فقط التقطتُ الدفتر من يدها وهي ترتعش تحت ثوبها المدرسي المخطط وإما أن أكتشف سر تلك المنطقة المستديرة التي تضع الدفتر عليها كلما أعطتني ظهرها لتراقب المطر من خلف الباب، وإما العقاب المدرسي وما كان أن أعطتني ظهرها مرة أخرى لتراقب المطر والناس ورفعتُ بيدي الباردتين طبقات الدفء لأكشفَ سرا أبيضا يشوبه احمرارٌ أيضا بعيدا عن فضول الطفولة واقترابا من رغبة الرابعة عشر في تحقيق الدفء الجسدي والاحتفاظ بالبكارة لكلينا، وأحببتُ من يومها تفكيري في تلك الفتاةِ، وشكرت الريح للمرة الألف، عشت ضيفا على الريح والبياضِ الذي تقدمه لي. لم تقلقني كما أقلقت المتنبي، ثم توطدت علاقتي بالبحر أكثر فهو يجبرهن على التعري أمامه حين تغيب الريح في الصيف، عرفت أن البحرَ صديق لا يستحق القتل ولم يخفف هذا خوفي من الغرق، ربما لأن لي خالا اشتهر بين أصدقائه بمهارته في السباحة حتى لفظه البحر غريقا..
علمتني الريح الرغبة والخوف وإخفاء الأسرار وانتقاء الأصدقاء ومعرفة الجهة الأقصر لما يبدو مريحا لي حتى في الابتعاد عن رؤية الله، أحببت الريحَ كثيرا فكرتُ أن أتزوجها، وحلمتُ أني أمشي على البحرِ كي أصل إليها ولا أصل، كانت الشمسُ تغيبُ في كل مرّة ويظلمُ البحرُ فلا أصلُ إليها، ربما سكنتْ تلك الفتاة أو ربما كانت هي الفتاة نفسها فلم أرَها من بعدها ولم ترجعِ الدفتر لي، أو ربما الليل هو ما يخفيه البحرُ. قلت سأستبدلُ الريحَ والفتاةَ بفتاةٍ بيضاء أخرى على أن تنقل الواجبات في البيت وعلى مكتبي هذه المرة، وحين سألتني أمي هل ستتزوجها فاجأتها بأني أحب الريح، ولكي تهرب من المفاجأة أخبرتني أن الريحَ ذكر، صدّقت بعدها أن الريح تقيم مع فتاتي خلف الليل، ومن يومها أريد أن أقتل الريحَ.